عرفته مثل ملايين المصريين من خلال ألحانه الرائعة، وكم كنت أنتظر حينما أعجب بأغنية لأعرف من صاحب الكلمات ومن صاحب الألحان، ولكم ازداد اعجابى بعمار الشريعى عندما عرفت انه صاحب اللحن العبقرى لأغنية شادية (أقوى من الزمان) التى كتب كلماتها الشاعر مصطفى الضمرانى (صاحب اغنية ما تقولش ايه ادتنا مصر وقول هندى ايه لمصر) وأنه صاحب الالحان العبقرية لفرقة الأصدقاء وخاصة (واحنا فايتين على الحدود مستمرين فى الصعود) للشاعر الرائع سيد حجاب، والتى طالما فجرت دموعنا ونحن نجاهد الغربة ونجتهد لترويضها والتعايش كالاسماك خارج الماء أو بالأحرى خارج مصر.. ولكم ازددت حبا لعمار الشريعى عندما استمعت لموسيقاه فى عشرات الافلام والمسلسلات، يكفى أن أذكر منها أرابيسك وزيزنيا وحديث الصباح والمساء ورأفت الهجان وغيرها الكثير.
ولكم أدركت أن عمار الشريعى الملحن الرائع لا ينافسه إلا عمار المتحدث البارع الذى يجذبك لحديثه ويشدك إليه لتجد نفسك تتمنى إلا يتوقف عن الحديث حتى تتواصل متعتك.. وأحسب بل واجزم أن هذا هو شعور الملايين ممن كانوا يتابعون برنامجه الرائع (غواص فى بحر النغم) بالإذاعة المصرية وبرنامجه الرائع (سهرة شريعى) بالتليفزيون المصرى.. ثقافة موسيقية موسوعية.. قدرة فائقة على تحليل الكلمات وإبراز مواطن الجمال بها كما لو كان عالم لغة.. قدرة فائقة على تحليل الأصوات وقدرتها على الأداء وما تتمتع به من حليات.. وكثيرا ما قلت لنفسى وأنا استمع لعمار فى غواص فى بحر النغم لقد وصل إلى ملامح ومعانى ربما لم تخطر على بال مؤلف كلمات الأغنية نفسه.
وكثيرا ما أعجبت بقدرة عمار الشريعى على الحكي، فهو حكاء من طراز فريد يمتاز بخفة ظل قل إن يجود بمثلها الزمان، فضلا عن حضور آسر.. سمعته مرة يتحدث عن علاقته بالتكنولوجيا الحديثة وكيف استطاع ان يسخرها ببراعة، ولخص ذلك فى جملة واحدة بليغة وكوميدية قائلا: نجحت فى جعل الكومبيوتر يفعل كل شيء لكننى اعترف بأنني فشلت فى جعله يقشر البطاطس.. وتوقف كثيرا أمام إجابته عن سؤال لمذيعة حول عملية حديثة نجحت في جعل الكفيف يبصر عن طريق مراكز عصبية معينة، وعما اذا كان يقبل أن تجرى له هذه العملية؟! أجاب عمار: لا أولا لأن العملية مازالت جديدة وخطيرة، وثانيا وهذا هو الأهم لأننى سعيد بحياتى وتكيفت معها ولا أعلم ماذا سيحدث لى لو أبصرت، ربما تتغير أفكارى عن أشخاص أحبهم وأحب أن أحبهم ما دمت حيا، باختصار أنا أحمد الله على ما أنا فيه.
ولكم كان سعادتى عندما علمت بأن عمار الشريعى سيكون أحد ضيوف هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وسيكون أحد المتحدثين الرئيسيين فى الندوات التى ستعقد فى المجمع الثقافى لأبو ظبي على هامش مهرجان أنغام من الشرق.. شاركت كممثل للسفارة المصرية فى أبو ظبي وبصفتى مستشارها الإعلامى فى المؤتمر الصحفى الذى عقده الصديق عبدالله العامرى، مدير الفنون بهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ليعلن عن وصول الموسيقار عمار الشريعى وليرحب به نجما من نجوم أنغام من الشرق.. وبالطبع أخرجت كل مخزون حبى لعمار فى مداخلتى التى عبرت فيها عن سعادتى وافتخارى بأشهر من غاص فى بحر النغم وصاحب أعمق واجمل السهرات الموسيقية سهرة شريعي، ومن سيثرى أنغام من الشرق بعلمه وفنه... وكم كانت سعادتى عندما علق عمار على كلامى بأقل عدد من الكلمات عندما قال ضاحكا: المستشار عبدالغنى مذاكرنى..
ويبدو أن كلمة عمار الشريعى هى التى دفعت القائمين على هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث بتكليفى بكل الإصرار على إدارة ندوة عمار الشريعى تحت عنوان (50 عاما من الموسيقى والغناء) وبالطبع استقبلت التكليف بسعادة بالغة وكدت أطير من الفرح، وظللت على مدى ايام أفكر فى عمار وكيف ساقدمه وأنا من عشاقه، وهل ساستطيع أن اوفيه حقه كواحد من أهم الموسيقيين.. توكلت على الله وقررت أن يكون كلامى مختصرا جدا لأعطى للجمهور الفرصة كاملة للاستمتاع بعمار المتحدث البارع.. انتظمت الندوة بحضور السفير المحترم محمد سعد عبيد سفير مصر لدى دولة الإمارات حينذاك، والصديق دكتور وليد عكو من قيادات المجمع الثقافي، والصديق عبدالله العامرى، مدير الفنون بهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث وبحضور أستاذة أساتذة الموسيقى الفنانة العميدة رئيسة دار الأوبرا الدكتورة رتيبة الحفنى، رحمها الله والتى كانت ضيف شرف مهرجان أنغام من الشرق، والمايسترو خالد فؤاد رحمه الله ،الذى سعدنا باحيائه حفلات ليالى المهرجان، فضلا عن جمهور غفير من عشاق عمار من كل الجنسيات العربية.
بدأت الندوة بالترحيب بعمار ببعض كلمات الاغانى مثل (هو بس هو اللى ساكن فى قلبى) و (بلديا وحبيبى وقريبى من جهة وغالى عندى غالى بالدنيا كلها) واختتمت الترحيب قائلا: يا عمار هقولك حاجة اسمعها وفكر فيها وانساها وقبل ما تنسى رجعها وهات الرد وياها بحبك يا عمار وكلنا بنحبك .. والآن آن لنا أن نصمت ليتكلم أشهر من غاص فى بحور النغم، وأثق أنه سيطوف بنا فى كنوز نصف قرن من الموسيقى والغناء، وسيمتعنا ويضحكنا ويدهشنا... فليتفضل الموسيقار الكبير عمار الشريعى.
حدث ما توقعته وادهشنا عمار وأضحكنا من أعماق قلوبنا وأسر عقولنا، وهو يحلل موسيقى سيد درويش وموسيقى محمد عبد الوهاب الذى وضعه على القمة كملحن مجدد مؤثر فى الموسيقى العربية... ولكم كانت دهشة كل الحضور عندما اختار عمار الشريعى أم كلثوم فى المركز الثانى بعد عبدالوهاب.. فسر عمار اختياره بأن ثومة كانت الملحن الثانى لكل أعمالها .. فهى تغنى اللحن الأصلى مرة أو مرتين، ثم تبدأ فى الإضافة إليه فى كل مرة تعيد فيها الكوبليه الذى كانت تكرره أحيانا فوق عشر مرات، وما كانت لتقوم بذلك لو لم يكن بداخلها ملحنة من طراز رفيع إلى جانب كونها مطربة من طراز أرفع.. شاكست عمار وقلت له انا أضع رياض السنباطى فى المرتبة الأولى، فشدد على ان ما طرحه هو رؤيته الخاصة وأن من حق أي إنسان أن يرتب الملحنين المؤثرين المجددين كما يراهم.. وشدد عمار على ثراء النصف الثانى من القرن العشرين بالمواهب الفذة التى لا يمكن الإحاطة بها فى ندوة واحدة أو مهرجان واحد، ويكفى الإشارة لمحمود الشريف ومحمد الموجى وكمال الطويل وبليغ حمدى وفريد الأطرش ومحمد فوزى.. صفقت القاعة طويلا لعمار الذى استخدم أجهزة التسجيلات بمهارة فائقة وكان ينادى ضاحكا ياعم صلاح (مهندس الصوت) مع حدوث أى عطل.....وضحكت القاعة طويلا وعمار يعلق ساخرا على أغنية عبدالحليم حافظ (انا لك على طول خليك ليا خد منى عين وطل عليا وخد الاتنين وأسأل فيا) ويقول ضاحكا بالذمة ده كلام هيضحى بعينه.
بعد انتهاء الندوة شكرنى عمار قائلا خطفتنى وجعلتنى أفكر فى كلامك.. وكانت المفاجأة وانا أسير بجوار عمار عندما قال لى (عبدالغنى وطى شوية عشان اقولك حاجة فى ودنك) عمار رحمه الله كان يبصر بعيون القلب.. وكان يرى ما لا نراه.. كان فنانا قل أن يجود بمثله الزمان.. رحمك الله يا من أتشرف بأننى اقتربت منه يوما، ونهلت من علمه وفنه وروحه النقية.. وأدعو الله أن يعوض قوة مصر الناعمة بعشرات الغواصين فى بحور النغم ممن يملكون علم وابداع وخفة ظل ورقي عمار الشريعي.
--------------------------------
بقلم: عبدالغني عجاج






